الفـن التعادلي عند توفيق الحكيم

إن التعادلية هو من المصطلحات التي ورد ذكرها في المحور الحادي عشر و ظهر لنا أن نساعد المتعلمين على فهم مضمون هذا المصطلح فاخترنا من المقالات ما وجدناه مزيلا لغموض التعادلية و موضحا لمفهومها و إليكم المقالاتان و على الله التكلان فهو وحدهع المستعان ......
مقتطف من المقال الأول :
- الفـن التعادلـــي:
يقول توفيق الحكيم: «التعادلية مذهبي في الفن والحياة». والمقصود بهذا المصطلح (أي التعادلية) كل حركة مقابلة ومناهضة لحركة أخرى لا التعادل بالمعنى الاصطلاحي اللغوي الذي يعني «التساوي»، ولا «التعادل» الذي يفيد التوسّط في الأمور. بعبارة أخرى، إن التعادلية هي التوازن بين قطبين، حيث إن الحياة السوية لا تتم إلا بهذا التوازن، ولا تختل إلا باختلاله.
على أساس هذا المذهب، بيّن توفيق الحكيم مواقفه من الإنسان والمجتمع والعصر الحاضر الذي يسوده القلق والشك نتيجة اختلال في التوازن بين قوى العلم (الذي هو وليد العقل) وبين قوة الإيمان (الذي هو وليد القلب). وعليه، فإذا كانت التعادلية تفترض توازنا بين قوتين [الإنسان كائن متعادل ماديا وروحيا]، فإن الحياة الروحية هي «تعادل بين الفكر والشعور»؛ وبالتالي، فإن ما يهم الفن والأدب هي الناحية الروحية في الإنسان»، أي أن وظيفتها هي «إلقاء الضوء على موقفه الفكري والشعوري تجاه هذا العالم الذي وُجدَ فيه: عالم الزمان والمكان والماضي والحاضر والمستقبل والبيئة والمجتمع، الخ...»
مراعاة لهذه الوظيفة (أي إلقاء الضوء على موقف الإنسان الفكري والشعوري)، يرى توفيق الحكيم أن التعادلية «تقيم الأدب والفن على أساس قوتين يجب أن يتعادلا هما قوة التعبير وقوة التفسير، لأن الأثر الأدبي أو الفني لا يكتمل خلقه ولا ينهض بمهمته إلا إذا تمَّ فيه التوازن بين القوة المعبرة والقوة المفسِّرة»لكن، ماذا يعني مصطلحا «التعبير» و«التفسير»؟ وأي مفهوم أدبي يمكن أن نستخلص منهما؟
يقول الحكيم: «إن التعبير هو الشكل والموضوع معا»بعبارة أخرى، إنه يشمل الأسلوب والموضوع، أي الشكل والمضمون... أما التفسير، فهو الضوء الذي يسلط على وضعية الإنسان والمجتمع، أي «الرسالة» التي ينطوي عليها الأثر الأدبي والفني»
هذا عن المصطلحين. أما في باب الاشتغال عليهما، فإن توفيق الحكيم يرى أن على الأديب أو الفنان أن لا يقتصر على التعبير وحده مهما كانت قيمة الشكل عالية، لأنه قد يعبر عن الحياة دون تفسيرها. وطالما انحصر عمله في هذا الجانب (أي التعبير وحده)، فإن مهمته لن تتعدى حدود التهذيب الروحي والإمتاع النفسي، كما أن فعله هذا سيؤدي إلى «الفن للفن»، أي إلى حبسه في هيكل الشكل. وكذلك الأمر بالتفسير، حيث الاقتصار عليه وحـده يـؤدي إلـى «الفـن الملتـزم»، أي حبـس الفنـان فـي سجـن المضمون نستخلص من هذا التحديد للفن التعادلي أن صناعة النتاج الفني أو الأدبي يقتضي توازنا بين التعبير والتفسير. لكن وجوده الحقيقي يرتبط أولا وقبل كل شيء بالتعبير باعتباره موهبة وأسلوبا. وهذا يعني لدى الحكيم أن كل أثر أدبي بإمكانه أن لا ينطوي على تفسير (أو رسالة) لأن هذه الأخيرة قد تكمن أحيانا في روعة تعبيره أو أسلوبه»
ربما يقودنا هذا الرأي إلى الاعتقاد بأن توفيق الحكيم يفضل التعبير عن التفسير، والواقع أنه يؤكد على اهتمامه بالشكل والمضمون باعتبارهما معيارا فنيا جوهريا يقود عملية الإبداع. ومن ثم، فإذا كان التعبير في رأيه يولد الفنان أو الأديب الحقيقي (لأنه يشمل الأسلوب والموضوع، أي الشكل والمضمون)، فإنه يلح على ضرورة الترابط الوثيق بين المقولتين بحيث لا يمكن أن يوجد المضمون (الموضوع) خارج بنية شكلية (الأسلوب) كما يؤكد على ذلك «يوري لوتمان» Iouri Lotman. وبما أّنَّ المضمون يتحقَّق في الشكل، فإن هذا الأخير يخضع لتحولات واختيارات؛ لهذا اعتبر توفيق الحكيم التعبير مرادفا للأسلوب وجسده المفتوح: الشيء الذي يحيلنا على مفهوم الكتاب كاملة ما دامت الرسالة (أي التفسير) عنده هي المنظومة الموضوعاتية التي ينطوي عليها النتاج الأدبي.

مقتطف من المقال الثاني :
التعادلية / لتوفيق الحكيم
...... "فالحكيم" يُعرف التعادلية بقوله: "والجاذبية هي أساس التعادل، لأن الجاذبية تعني وجود قوتين، والتعادل يعني المحافظة على بقاء القوتين دون أن تتلاشى إحداهما في الأخرى" .
ويحرص على توضيح عدم تلاشي إحدى القوتين، أو فنائها في القوة الأخرى فيقول: "لا ينبغي أن تؤخذ كلمة التعادل هنا بالمعنى اللغوي الذي يفيد التساوي، ولا بالمعنى الذي يعني الاعتدال أو التوسط في الأمور، بل إن معنى التعادل هنا هو التقابل، والقوة المعادلة هنا معناها: القوة المقابلة والمناهضة، فإذا لم يفهم معنى الكلمة على هذا الوضع فإن التعادلية تفقد حقيقة معناها ومرماها، إن التعادلية في هذا الكتاب كامل هي الحركة المقابلة والمناهضة لحركة أخرى" .
وتأويل ما ذهب إليه "الحكيم" في تفسير "التعادلية" يضاهي أو يقارب مفهوم "التوازن" كما سيبين في الفصل اللاحق.
فالتعادلية في نظره ليست التوسط الرياضي في كل الأمور، لأن التوسط الرياضي ثابت ومطرد ويفضي إلى سكون وجمود أما "التعادلية" فهي قوة جاذبة بين طرفين، يحكم الموقف صورة الاعتدال بينهما.
والكتاب كامل على كل حال يوضح القوتين اللتين ينبغي أن تتعادلا، قوة العقل وقوة الشعور، أو العقل والقلب.
ويعني بالفكر أو العقل: العلم، وبالشعور أو القلب: الدين. وفكرة الكتاب كامل الأساسية تقوم على ما ينبغي من تعادل هاتين القوتين. ويؤكد "الحكيم" أن رقي أية حضارة داخل الفرد -أياً كان نشاطه- أو المجتمع مرهون بتوازن هاتين القوتين، كما أن طغيان أي من هاتين القوتين يفضي لا محالة إلى اختلال وصدع في بنيان الأمة.
فلو طغت قوة العلم ولدت حضارة ظالمة للكون والإنسان، وإن طغت قوة الروح، وتجافى أصحابها عن العلم اختلت حضارتهم أيضاً، وملحوظ أن الكتاب كامل يعني بالدين مطلق الدين، وليس الإسلام بذاته.
وثم ملحوظة تتصل بهذا الكتاب كامل لا يفوتني التنويه بها، وهي أن "التعادلية" الكتب الكاملةت في مرحلتين متباعدتين، الجزء الأول باسم "التعادلية" في عام 1955م والثاني باسم "مع الإسلام والتعادلية" 1982م. فالزمن بينهما ليس قصيراً، يعترف "الحكيم" في الأول بتأثير الغرب عليه، وأن الفكر العربي وقتئذٍ يخلو من فلسفة. "وأن تفكيرنا وفلسفتنا هي ما نستجلبه جاهزاً من الفلسفات الأوروبية .
غير أن التعادلية ظلت تنمو تدريجاً داخل فكره، وتدعوه إلى التدبر فيما حوله إلى أن نضجت بعدما يقرب من سبعة وعشرين عاماً من البحث كامل الدؤوب، ثم قادته فطرته الإسلامية إلى أن التعادلية هي أساس الإسلام، دينه. يقول: "وفي عام 1955م الكتب الكاملةت التعادلية لأوضح أن كل شيء في الكون يقوم على التعادلية، ثم وصلت إلى عام 1982م فوجدت أن ديني وهو الإسلام، هو جزء من النظام الكوني القائم على التعادلية، ورأيت أن ما يمكن جعله أساساً لفلسفة عربية إسلامية هو ما نشأ عن عقيدتنا التي تقول للإنسان: إن عليه أن يعيش في الدنيا كأنه يعيش أبداً. ويعيش للآخرة كأنه يموت غداً .
فالكتاب كامل اهتدى إلى أن منهج الشريعة قائم على "التوازن" والتعادلية، ولكن الرجل لم يكن ذا إحاطة بفقه الشريعة، ولم يكن على دراية تامة بالأحكام وأصولها، وبأقوال الفقهاء فنجده لا يتوخى الدقة والصواب فيما يذهب إليه في بعض الآراء التي يسوقها.
فهو مثلاً: يقترح الأخذ من القوانين الوضعية بما ينفع الناس في الأرض مستأنساً بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): "اأرجوا طلبوا العلم ولو في الصين". ويزعم بعد ذلك أن الرجم في الزنا أخذه الإسلام من التوراة "فلا حرج إذن أن يقتبس الإسلام ما ينفع المسلمين" .
ثم يجعل من هذا قياساً ومدخلاً للأخذ من القوانين الوضعية على أساس النفع وحده، فيقول: "وهذا ما ينبغي دائماً لرجال الدين اليوم الاقتداء به فيما ينفع الناس بصرف النظر عما إذا كان هذا مطابقاً أو غير مطابق لما كان يجري عليه العمل في العصور السابقة أي أن يكون الأساس في ممارسة الحياة على النفع الذي يعود على الناس وليس على النصوص القديمة وحدها .
وجعل أساس ممارسة الحياة يقوم على النفع إطلاقاً فيه مجازفة، والأصح مع اعتبار النفع هو وجود مرجع من الشريعة، يُستند إليه في ضبط النفع، لأن النفع يختلف باختلاف الناس والأجناس والأزمنة والأمكنة.
كما يقترح الكاتب الفصل بين الدين والدنيا، وهذا ما يأباه المنهج الإسلامي فهو دين يأمر أتباعه أن تكون الآخرة حصاداً لأعمال الدنيا بدون فصل بين عمل للدين وعمل للدنيا، بل أعمال الدنيا إذا وجهت فيها النية لله وحده تصبح عملاً للآخرة.
يقول "الحكيم": كما وُجدت الدنيا وإلى جانبها الآخرة، ويقع بينهما أحياناً مواقف متعارضة تستوجب الفصل بينهما بالقول: إن الإيمان يستخدم فيما يتصل بالله، والعقل يستخدم فيما يتصل بالبشر" .
وهكذا أجده يناقض نفسه، فهو على حين قرر في أول الكتاب كامل أن التعادلية لا تتحقق إلا بالتعادل بين قوة العلم وقوة الدين، وجعلها الفكرة الرئيسة للجزء الأول، أجده عند تطبيق "التعادلية" على الإسلام في الجزء الثاني يطالب بالفصل. وهو فصل -فيما أظن- يؤدي إلى طغيان قوة من القوتين على الأخرى، وهذا ما تنكره فكرة الكتاب كامل.
وإضافة إلى موضع الفصل بين الدين والدنيا، أجد الكاتب أقحم مصطلحات غريبة لا تمت لطبيعة المنهج الإسلامي، كاستخدام "رجال الدين" في مقام فقهاء الإسلام.
كما أجده يدعو إلى فلسفة إسلامية وكان أحرى ألا يضيف مادة الفلسفة إلى الإسلام، لأن الإسلام دين عقيدة وسلوك، ودين حكمة منبثقة من ممارسات الحياة وليس دين فلسفة نابعة من الذهن وحده.
وعلى الرغم مما نوهت به تعليقاً على الكتاب كامل فإني أراه إشراقة على طريق معيار "التوازن"، وطّأت لمن أتى بعده من الباحثين.

* * *






©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©